في الرابع عشر من آذار 1883، وفي الساعة الثالثة إلا ربعاً من بعد الظهر، كفّ عن التفكير أكبر مفكرعلى قيد الحياة..
بهذه الكلمات بدأ فريدريك انجلز، صديق ماركس الحميم ورفيق دربه وشريكه الموهوب في وضع وصياغة النظرية التي حملت اسمه، كلمته يوم 17 آذار أمام قبر كارل ماركس في مقبرة هايغيت بلندن، حيث دفن في قبر زوجته جيني ماركس، التي فجع بوفاتها منذ خمسة عشر شهرا (قبل ان يفجع ثانية بوفاة ابنته قبل شهرين).
يكاد يجمع المفكرون والعلماء ومؤرخو الفكر بأن ماركس كان أعظم مفكري القرن التاسع عشر تأثيراً، وأوسعهم انتشاراً. وفي القرن العشرين تحولت افكاره إلى مرجعية لأحزاب وقوى وحركات نحتت معالم القرن العشرين، وأقامت أنظمة اشتراكية شملت أكثر من ثلث كوكبنا.
أين مكمن عبقريته؟
يلخص انجلز انجازات ماركس، رجل العلم، بثلاثة: اكتشافه قانون تطور التاريخ الإنساني، وتعرفه على قانون الحركة الخاص الذي يحكم نمط الانتاج الرأسمالي والمجتمع المنبثق عنه باكتشافه لفائض القيمة، واكتشافاته المستقلة في كل حقل بحث فيه، وهي كثر بما في ذلك علم الرياضيات.
لكن رجل العلم في ماركس، بكل انجازه الهائل، لا يرقى إلى نصف ما يمثله ماركس الإنسان.
فالعلم بالنسبة اليه قوة ديناميكية ثورية مؤثرة في التاريخ، وإذا كان يبتهج بكل اكتشاف علمي قد لا تعرف تطبيقاته بعد، فقد كان الامر يختلف عندما كان الاكتشاف يفضي إلى تغييرات ثورية سريعة في الصناعة وفي التطور التاريخي عموما.
كان ماركس ثوريا قبل كل شيء، وكانت رسالته في الحياة تتمثل بالانتصار للعمال والشغيلة، والمساهمة في تحريرهم من نظام الاستغلال. كان النضال ديدنه، وقد خاضه بشغف واصرار ونجاح قلّ من يرتقى إليه.
أراد خصومه، وخشي انصاره، وظنّ آخرون، أن فكره وفلسفته قد تقوضا وانحسرا الى غير رجعة من ساحة الفعل والتأثير، بعد انهيار التجارب التي حاولت استلهام نظريته ومنهجه. ثمة حقا ما سقط بعدما وضع في قوالب متحجرة، وتحول إلى ايقونات وخطابات ومفاهيم تتعدى التاريخ، وتتخطى الواقع، وتبتعد عن نبض حركته، وتشرعن السلطة.
لكن ماركس يبقى حتى يومنا هذا بين أكثر شخصيات التاريخ شعبية ونفوذا، وهو ما تشهد عليه الاستطلاعات*. ويقرّ أصحاب العلم والرأي في العالم بأن مقولاته ومفاهيمه ومنهجه طبعت العلوم الانسانية ومناهج البحث العلمي بقوة.
وأهم من هذا وذاك، أن ماركس يحتفظ بأهميته كأبرز منظـّر وناقد للرأسمالية، وأفضل من كشف عن قوانين وآليات حركتها وسيرورتها، واثبت تاريخية نظامها. وقد شهد مؤخراً باحثون ومتخصصون موضوعيون في اوروبا والولايات المتحدة، بأن كتابات ماركس في البيان الشيوعي وغيرها من مؤلفاته تتضمن اشارات ألمعية، تستشرف تطور الرأسمالية نحو العولمة، وتؤكد راهنية تحليلاته وخصب بعض مفاهيمه الاقتصادية والاجتماعية والفلسفية، كفائض القيمة والاغتراب الناشيء عن انفصام العامل عن نتاج عمله وغيرها.
ويجد المناضلون وكل من يتطلع إلى مجتمع خال من الاستغلال والقهر والتسيّد بجميع اشكاله، في فكر ماركس ونتاج من يتبعون منهجه، معيناً لا ينضب ومرشداً موثوقاً. فهو قبل كل شيء وبامتياز، مفكر التحرر الانساني والتطور الحر المتناغم للفرد والمجموع.
---------------------------------
* في 19 آب 2005 بثت إذاعة بي بي سي 4 البريطانية المحلية، إذاعة الثقافة والفكر، نتائج استفتاء أجرته لمستمعيها بهدف اختيار اكبر عشرة فلاسفة. وقد تبيّن منها أن كارل ماركس جاء في الطليعة بحصوله على حوالي 28% من اصوات جمهور الاذاعة، فيما حصل الثاني بعده، ديفيد هيوم، على اقل من 13%! وبعدهما، بفارق كبير آخر، جاء على التوالي كل من: لودفيك فيتغنشتاين، فريدريخ نيتشه، افلاطون، عمانوئيل كانت، توما الاقويني، سقراط، ارسطو، كارل بوبر .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
الاسم
التعليق